top of page
Featured Posts

خداع النفس


الدماغ البشري هو عبارة عن آلة معقدة جدا ، لديها القدرة على الفهم ، و التخيل ، و التوهم و ممارسة الخداع ... و أسهل ضحية يمكن للعقل خداعها ، هو العقل نفسه ...

من أوجه هذا الخداع الذي يمارسه العقل على نفسه :

أن يقوم بعملية بحث ذهني عن الحجج التي ترضي رغباته ، فتجعله يتجنب الخضوع لحقائق دامغة رغم اقتناعه بأنها دامغة و لا يمكن إنكارها، فيقوم بتقزيم تلك المعلومات و أرشفتها و رميها في سلة الأفكار المهملة التي لا يجب التأمل فيها كثيرا.

مثال بسيط : الطفل يستمر في اللعب و إضاعة الوقت رغم أن الأبوين ينبهانه لأهمية الدراسة و ضرر إضاعة الوقت. فيقول الأبوين أنه لا يهتم. وهو فعلا لا يهتم، رغم أنه ربما مقتنع بكلام الأبوين، و يعي سوء ما يفعله، لأن عقله يقوم باطنيا باستحضار أفكار و حجج تجعل من الحقائق التي تعرض أمامه و التي تعارض رغبته و حبه للعب مجرد أفكار مزعجة يجب تجنب مناقشتها ، فيقوم دماغه بتجنب مناقشتها عن طريق استحضار أفكار أخرى ، كأن يقول في نفسه "أنا لا زلت طفلا" ، أو " سأدرس حين أكبر" أو "لا يهم إذا لم أدرس فالكثيرون لم يدرسوا" ...

و عملية الخداع تلك يعيشها الكبار أكثر من الصغار، فتجد أنه يدخن ، ليس لجهله بأضرار التدخين ، إنما لأن عقله يستحضر كل الحجج الممكنة أمامه ولو كانت واهية و ضعيفة ، و يجعلها تبدوا و كأنها مهمة و مقنعة لكي يستمر في التدخين دون تأنيب الضمير، أو أن يتجنب التفكير في الموضوع بتغيير الموضوع و توجيه العقل للتفكير في شيء آخر. مثال : كلمه عن إرهاب المسلمين ، و سيبدأ عقله مباشرة بالتفكير في جرائم هتلر و ستالين و يخدع نفسه عن طريق تبرير الموضوع بالقول بأن الآخرين أيضا مجرمون ، و قد ينطق بهذه الحجة و يصرح بها للآخرين أو يتركها لنفسه.

عملية خداع النفس تصبح أقوى و أشد حين يعاني الشخص من مشاكل نفسية على شاكلة حب الإستماع للنفس. أي أن هذا الشخص يحب الإستماع لآرائه هو، و كلامه هو، وهو معجب بطريقته في الكلام و في صياغة الحجج. هذا الشخص حين يدخل في حوار مع الآخر تجده يتكلم أكثر مما يسمع، و حين يسمع فهو لا يستمع و لا يصغي لما يقال أكثر من اصغائه لنفسه و للردود التي تراوده أثناء كلام الآخر حتى لو كانت حجج و ردود واهية و ضعيفة ، إلا أنه يراها مهمة لأن عقله يخدعه بأنها كذلك لكي يتجنب تأنيب الضمير أو قساوة التفكير ...

الكثير من المتدينين الذين أعرفهم منغمسون في هذه الحالة النفسية المعقدة ، بل حالتهم أكثر تعقيدا ...

لأنهم ليسوا معجبين بكلامهم و آرائهم فقط، بل بآراء و كلام جماعة من البشر تشاركهم نفس التوجه الفكري. فحين يشاهدون مناظرة أو حوار بين أحد شيوخهم و أحد المخالفين ، تراهم منغمسين و مركزين بشدة في ما يقوله الشيخ، و لا يكادوا يسمعوا أي حرف مما يقوله المخالف ، بل بمجرد أن يبدأ المخالف الكلام فإن عقولهم تبدأ عملية البحث عن الحجج و الردود المرضية و المريحة بدلا من التفكير في ما يقوله المتكلم.

و لهذا تجدهم يقرأون و يستمعون لوجهة نظر واحدة ، و لأتباع فكرة واحدة ، و قد يجهلون تماما وجود المخالفين أو يتجاهلونه بسبب حالة خداع النفس التي تفرضها عليهم أدمغتهم و التي تخبرهم باطنيا بأن المخالف غير موجود أو أن أعدادهم ضئيلة جدا.

أما شيوخهم ، فهم يستغلون هذه الحالة المرضية لكي يتحكموا في القطيع ، سواءا بقصد أو بغير قصد ، سواءا عن إدراك أو دون إدراك، فهم يقومون بمساعدة العقل على خداع النفس بإخباره بأنه من خير أمة أخرجت للناس ، و أن أعداد المسلمين تتزايد كل يوم ، و أن المجاهدين يخطون الإنتصارات ليل نهار ، و أن أوروبا تتحطم و تنهار ، و أن هناك شيء اسمه الأمة الإسلامية و عدد البشر فيها بالملايير، و أن كبار علماء الغرب يشاركونه الرأي و قد أسلموا و حسن إسلامهم...

بل هم يمارسون خدعة أكثر تعقيدا من الكذب ، و هي لعبة الحوار الثنائي في شكل أحادي ... أي أنهم يجعلون أتباعهم يستغنون عن قراءة الرأي المخالف ( الذي يتوهمون مسبقا أنه ساقط و فاسد و ضعيف ) بأن يحضروا لهم الرأي المخالف و يقومون هم بنقله بعد تنقيته و تنظيفه و إعادة صياغته بالشكل الذي يجعله هزيلا و يجعلهم ينتصرون عليه. يمكنكم متابعة هذه العملية من خلال كلام شيوخ السنة عن الشيعة و شيوخ الشيعة عن السنة و تفاديهم المناظرة المباشرة ، و كلام الصوفية عن السلفية و السلفية عن الصوفية دون حوارات مباشرة ، فيقوم دجالوا كل فرقة بنقل الرأي و الرأي الآخر في نفس الوقت بالطريقة التي يحب هو أن ينقلها.

و قد قلت أنهم يقومون بهذا عن "إدراك أو دون إدراك" لأن ما يقومون به يدخل غالبا ضمن مرض خداع النفس، فهم حين يتكلمون يمارسون خداع النفس قبل خداع القطيع ، أي أنهم يقولون الكلام الذي يعجبهم و يرضيهم و يغنيهم عن التفكير، و يخترعوا حوارات وهمية مع المخالفين لتجنب الحوار المباشر ، و حين يقرأون للمخالف فإن العقل يدخل في عملية تهميش الرأي المخالف و خداع النفس باستحضار حجج واهية في الذهن تجعل الرأي الآخر يبدوا تافها و غير مهم ... و هم حين يتكلمون يستمعون لأنفسهم و كأنهم مشاهدون و أفراد من القطيع نفسه.

و لا يستبعد أن يكون البعض منهم مدرك لما يفعل و يتعمد التلاعب بعقول الأتباع ، فحين أرى قناة الجزيرة و العاملين فيها وهم فريق من البشر يقتطعون فيديو محاضرة عالمية لعلماء أحياء عن آردي و التي صرح فيها هؤلاء بأن الأحفورة تؤكد نظرية التطور ، فقامت القناة بقلب الكلام و جعله يبدوا و كأنها تنفي التطور ، هنا أستبعد أن يكون الموضوع مرض خداع نفس عميق. لكني لا أرجح أن يكون أغلب الشيوخ و الدجالون متآمرين و مدركين لما يقومون به ، لأن غالبيتهم أغبى من أن تدرك هذه الأشياء.

فالقطيع ليس شريرا، إنهم مغيبون يحتاجون للتنوير، يحتاجون لصفعة تفيقهم ، لكن من الصعب جدا صفعهم، لأن الكثيرين منهم يعيشون حالة خداع نفس...

و لهذا أنا أدعم الصدمات مهما كانت سيئة بالنسبة لهم ، فسواءا حملات الفيمن أو صعود الملحدين و انتشار الانتقاد الصريح لأكثر النصوص قدسية لديهم بالنسبة لي هي بشائر خير بغض النظر عن توجهي الفكري ، لأنها تضعهم أمام حقيقة أن أوهامهم التي تدخلهم فيها عقولهم هي أوهام، و أن المخالف موجود ، و تفرض عليهم التعامل مع المخالف مباشرة لا النظر إليه من منظار الشيوخ و الدجالين و الوسطاء المدلسين.

‫#‏الشيخ_ديكارت‬


آخر المقالات
الأرشيف
bottom of page